سورة المائدة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}
يقال وفى بالعهد وأوفى به ومنه: {والموفون بعهدهم} [البقرة: 177]. والعقد: العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، قال الحطيئة:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِم *** شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها. والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل وهو قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} وما بعده. البهيمة: كلّ ذات أربع في البرّ والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى (من) كخاتم فضة. ومعناه: البهيمة من الأنعام {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إلا محرّم ما يتلى عليكم من القرآن، من نحو قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة}، أوإلا ما يتلى عليكم آية تحريمه. والأنعام: الأزواج الثمانية. وقيل: (بهمية الأنعام) الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} نصب على الحال من الضمير في (لكم) أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد.
وعن الأخفش أن انتصابه عن قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} وقوله: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} حال عن محلي الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون، لئلا نحرج عليكم {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. والحرم: جمع حرام وهو المحرم.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}
الشعائر جمع شعيرة وهي اسم ما اشعر، أي جعل شعاراً وعلماً للنسك، من مواقف الحج ومرامي الجمار، والمطاف، والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحج يعرف بها من الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق، والنحر. والشهر الحرام: شهر الحج. والهدي: ما أهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك. وهو جمع هدية، كما يقال جدي في جمع جدية السرج والقلائد: جمع قلادة، وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة، أو لحاء شجر، أوغيره. وآمّو المسجد الحرام: قاصدوه، وهم الحجاج والعمار. وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدّون به الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدي بالغضب أو بالمنع من بلوغ محله. وأما القلائد ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد بها ذوات القلائد من الهدي وهي البدن، وتعطف على الهدي للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنهاأشرف الهدي، كقوله: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] كأنه قيل: والقلائد منها خصوصاً.
والثاني: أن ينهي عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي، على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها، كما قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] فنهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها {وَلآ ءَآمِّينَ} ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ} وهو الثواب {وَرِضْوَاناً} وأن يرضى عنهم، أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرض لمثلهم. قيل: هي محكمة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «المائدة من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» وقال الحسن: ليس فيها منسوخ.
وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ. وقيل: هي منسوخة.
وعن ابن عباس: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً، فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله: {لاَ تُحِلُّواْ} ثم نزل بعد ذلك: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28]، {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} [التوبة: 17] وقال مجاهد والشعبي: {لاَ تُحِلُّواْ} نسخ بقوله: {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89]. وفسر ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأنّ المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم، وأنّ الحج يقربهم إلى الله، فوصفهم الله بظنهم.
وقرأ عبد الله: {ولا أمي البيت الحرام}، على الإضافة.
وقرأ حميد بن قيس والأعرج: {تبتغون}، بالتاء على خطاب المؤمنين {فاصطادوا} إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وقرئ بكسر الفاء. وقيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقرئ: {وإذا أحللتم}، يقال حلّ المحرم وأحلّ. (جرم) يجري مجرى (كسب) في تعديه إلى مفعول واحد واثنين.
تقول: جرم ذنباً، نحو كسبه. وجرمته ذنباً، نحو كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنباً، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنباً. وعليه قراءة عبد الله: {ولا يجرمنكم} بضم الياء، وأوّل المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني: {أَن تَعْتَدُواْ}. و{أَن صَدُّوكُمْ} بفتح الهمزة، متعلق بالشنآن بمعنى العلة، والشنآن: شدة البغض. وقرئ بسكون النون. والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدّوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه. وقرئ: {إن صدّوكم}، على (إن) الشرطية. وفي قراءة عبد الله: {إن يصدوكم}. ومعنى صدّهم إياهم عن المسجد الحرام: منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} على العفو والإغضاء {ولا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} على الانتقام والتشفي. ويجوز أن يراد العموم لكل برّ وتقوى وكلّ إثم وعدوان، فيتناول بعمومه العفو والانتصار.


{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد وهو الدم في المباعر، يشونها ويقولون: لم يحرم من فزد له {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفع الصوت به لغير الله، وهو قولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه {والمنخنقة} التي خنقوها حتى ماتت، أو انخنقت بسبب {والموقوذة} التي أثخنوها ضرباً بعصا أو حجر حتى ماتت {والمتردية} التي تردَّت من جبل أو في بئر فماتت {والنطيحة} التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح {وَمَا أَكَلَ السبع} بعضه {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب أوداجه.
وقرأ عبد الله {والمنطوحة}. وفي رواية عن أبي عمرو {السبْع} بسكون الباء.
وقرأ ابن عباس: {وأكيل السبع} {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، ويعظمونها بذلك ويتقرّبون به إليها، تسمى الأنصاب، والنصب واحد. قال الأعشى:
وَذَا النَّصْبِ الْمَنْصُوبِ لاَ تَعْبُدَنَّه *** لِعَاقِبَةٍ وَاللَّهِ رَبَّكَ فَاعْبُدَا
وقيل: هو جمع، والواحد نصاب. وقرئ: {النصْب} بسكون الصاد {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي بالقداح. كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، وبعضها غفل؛ فإن خرج الآمر مضى لطيته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أجالها عوداً. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل: هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة {ذلكم فِسْقٌ} الإشارة إلى الاستقسام: أو إلى تناول ما حرّم عليهم؛ لأنّ المعنى حرّم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا.
فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام لتعرف الحال فسقاً؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب وقال: {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] واعتقاد أنّ إليه طريقاً وإلى استنباطه، وقوله: أمرني ربي، ونهاني ربي: افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم- فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر {اليوم} لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شاباً، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه (الآن) في قوله:
الآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبتِي *** وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى جَذَمِ
وقيل: أريد يوم نزولها، وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرّمت عليكم.
وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه؛ لأن الله عزّ وجلّ وفىَّ بوعده من إظهاره على الدين كله {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين مقهورين بعدما كانوا غالبين {واخشونى} وأخلصوا لي الخشية {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} كفيتكم أمر عدوِّكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأنَّ لم يحجّ معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتمتت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} يعني اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92].
فإن قلت: بم اتصل قوله: {فَمَنِ اضطر}؟ قلت: بذكر المحرّمات. وقوله: {ذلكم فِسْقٌ} اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذلك ما بعده؛ لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل. ومعناه: فمن اضطرّ إلى الميتة أو إلى غيرها {فِى مَخْمَصَةٍ} في مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} غير منحرف إليه، كقولِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة: 173]. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} لا يؤاخذه بذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8